نغمات هاتفي تتوالى... أبلغوني بأن أذهب إلى بيت العائلة على وجه السرعة... دخلت البيت ووجدت أخوتي يتراصون حول أمي التي حام ملك الموت حولها... لم أكن أراها منذ شهر مضى.. ياللهو الدنيا! ارتباطي بها فوق ارتباط الأطفال بأمهاتهم... استدعينا الطبيب ولكن ماذا يفعل؟ فقد وقف عاجزاً مشدوها يتأمل في أدويته التي فقدت مفعولها وخواصها... فدواؤه الذي طالما عالج المرضى الآن أصبح عاجزاً عقيماً عن إسكات آلام الموت وسكراته... فملك الموت يقف في انتظار اللحظات الباقية حتى ينفذ أمر بارئه.
يتعالى بكاء أخوتي ونحيبهم بينما أنا الابن الأكبر احتجزت دموعي حتى لا ينهاروا أمامي... ينظرون إلي فيرون جفاف عيني...لا يعلمون أن ما أحتجزه بعيني ينزل بقلبي فيحرقه.
أنظر إليها فترفع عينيها وهي تعاني من شدة السكرات ... أجد عينيها تقف في عيني فيزداد قلبي احتراقاً من حمية الدموع التي تساقطت به... خالي وخالاتي الثلاث قد أتوا وذاد البكاء إلى حد النحيب... كل ذلك وأنا مازلت متماسكاً ... يحسبونني قوياً ويحسدونني لقوة جلدي وصبري... لا يعلمون أن صرختي التي بداخلي لو علت لأسمعت العالم.
ومازالت أمي تعاني من السكرات وتغرر باللحظات الأخيرة.. مازلت أنظر إليها حتى إنني تمنيت لها الموت حتى تستريح من تلك الآلام والأوجاع.. تتركها السكرات لحظات صغيرة فتهدأ زفراتها.. ترفع عينيها إلى من حولها بهدوء وسكينة ولكنها لا تستطيع الكلام .. تنظر إلي وكأنها تريد أن تلقنني وصية.. أتمنى أن تنطق ولو بكلمة ولكن هيهات هيهات فقد تذكرت قوله سبحانه وتعالى: ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون) ..
تظل لحظات وهي هادئة من السكرات فيهجع جسدها وكأنها ستنام ولكن سرعان ما تنازعها السكرات من جديد.
أختي الصغيرة تجلس بجوارها وتقبلها وهي تبكي بحرارة ماما ماما.. لهفة الصغيرة تزيد بكاء الجميع فالكل يبكي ويعبر عما بداخله إلا أنا لا أستطيع.. فقد عودني أبي منذ صغري أن أعرف كيف أتحكم في نفسي ولا أتبع هواها.. أحسست بشرخ في قلبي و سرعة في نبضاتي التي كاد قلبي يخفق من شدة سرعتها..
في كل ذلك وأنا أمنع الدموع المحتجزة من الخروج .. رحمة الله عليك يا والدي عودتني أن أكون قوياً وأن يكون بأسي شديداً حتى أكون مهيباً بين الناس حتى ظنوا بي أنني قاسي القلب مطموس البصيرة.. ولكن عفواً يا والدي فهذا الموقف يهيبني ويجعلني أكاد لا أستطيع التحكم في نفسي أو أن أمنع دموعي..
تمنيت أن أكون ولدت يتيماً من الأم لأنني ارتبطت بها بدرجة رهيبة تجعلني لا أتخيل الدنيا دونهما.. بل ظننت أنني لن أستطيع الحياة بعدها لحظة واحدة.
نظرت إلي نظرة حادة وكأنها تعاتبني لأنني لم أرها منذ شهر مضى ربما هذه المرة الأولى في حياتي التي لم أراها شهراً كاملاً.
سامحيني يا أمي فقد لهتني الحياة ومنعتني.. ووجدتها ترفرف كالحمام المذبوح.. فزفرت زفرتها الأخيرة وماتت وأنا مازلت أمنع عيوني من الدموع حتى لا ينهار أخوتي الصغار من حولي وهم يرون أخاهم الأكبر الذي اعتادوه بالقوة يذرف الدموع... أسبلت عينيها وقبلتها القبلة الأخيرة، وفي هذه اللحظة لم أتمالك نفسي فنزلت دموعي على جبينها فانهار أخوتي حولي فأمسكت نفسي من جديد وعدت لقوتي وغطيت وجهها.
غسلناها وألبسناها أكفانها وذهبنا لدفنها ووداعها إلى مثواها الأخير... وأنزلناها بقبرها ودعوت الله أن يجعله روضة من رياض الجنة...
غادر الجميع إلا أنا فقد أصررت على أن يتركوني وحدي بين المقابر لأجلس مع أمي لحظات أؤنس وحدتها فكم أنست وحدتي .
وما أن رأيت نفسي وحدي أمام قبر أمي حتى أجهشت بالبكاء على أحب وأحن خلق الله إلي . خرجت دموعي التي احتجزتها طوال ساعات طويلة... خرجت تتوالى كمطر ينهمر بقوة... ومازالت الدموع تذرف بلا توقف طوال سويعات طويلة حتى استراحت نفسي وهدأت بعد أن خرج هذا الكم من الدموع المحتجزة ... اصفرت الشمس معلنة عن الغروب فكاد يجن الليل وأنا مازلت على موضعي وعلى حالتي.
مر بجواري رجلاً لا أعرفه ولم أره من قبل.. رجل أسمر متوسط الطول يلبس جلباباً أبيض قديماً.. تظهر لفافة رأسه قسوة الحياة عليه.. تكتنف وجهه لحية بيضاء، وتقطع جبهته علامة الصلاة... فألقى علي السلام وسألني: على من تبكي؟
فقلت له: أبكي على أمي ، فقال: ماتت أمك..!!! ماتت من كان يكرمك الله من أجلها.. صبرك على مصيبتك يا بني. هل كنت باراً بها؟
فزاد بكائي وقلت له: نعم كنت باراً بها ولكن منذ أن تركت البيت وعشت بعيداً مع زوجتي لهتني الحياة يا شيخ فقصرت في حقها ، فلم أزرها منذ شهر.. ثم بكى الشيخ وقال: لهتك الحياة عن زيارة أمك وأنت تسكن على بعد بضعة كيلومترات منها! يا للهو الدنيا بأهلها! أعانك الله يا بني.
ثم تركني الشيخ وقال لي أدعو الله لأمك وأبيك ولاتكل عن الدعاء لهم في كل صلاة وأكمل الشيخ طريقه. فدعوت الله لأمي ولأبي أن يغفر لهما ويوسع لهما في دارهما، وأن يسكنهما فسيح جناته، ثم اتخذت طريقي إلى البيت وقلت في نفسي: هل بررت بأمي طوال حياتها كما وصانا المولى عز وجل.. أم أن الفاجعة على الآباء تصيبنا حين الفراق فقط وساعة الحياة نلهو ونعبث ولا نتذكر آباءنا الذين أوجب الله سبحانه وتعالى علينا مصاحبتهم في الدنيا والإحسان إليهم حتى وإن كانوا كفاراً.
تحيتي
أختكم نور الولاية